العقد وحق الغير
إن العقد باعتباره حدث إجتماعي، يمكن أن يؤثر في الغير الذي يجد نفسه دون إرادته ينغمس في شؤون عقد
لم يكن طرفا فيه، خاصة إذا ما قام هذا العقد منتقصا أو معيبا مما يعرضه لحكم البطلان بأثره الرجعي الذي
يسري في حق الأطراف وكذلك في حق الغير وهذا الأخير يتأثر بالبطلان لأن حقوقه ومصالحه مرتبطة
بمصير العقد سواء تقرر إبطاله أو وقع تنفيذه بالرغم من كونه نشأ معيبا.
فلو تقرر إبطال سند معاقد الغير فإن سند هذا الأخير سيزول تبعا لذلك لأن أثر البطلان يسري على العقد
الأصلي وكل العقود المتفرعة عنه. وفي هذه الصورة لا يسع الغير التمسك بعقده لأنه سيصطدم بقاعدة
أصولية تقضي بأنه ما بني على باطل فهو باطل أو أن الشخص لا يستطيع أن يمنح غيره أكثر مما له من
الحقوق.
كما أن في تنفيذ العقد المعيب أو الذي يكون أساسه الغش والتدليس، ما يعصف بحقوق الغير المرتبطة بمآل
هذا العقد فلو أقدم الأطراف على تنفيذه اندثرت حقوق الغير، ولو قضي بإلغائه تدعمت مكاسبه.
وفي كلتا الحالتين يطرح السؤال نفسه : كيف نحمل الغير نتائج تصرف لم يكن طرفا فيه؟ كيف نحمله وزر
خطأ إرتكبه في الأساس غيره؟ كل هذه الأسئلة تقودنا للبحث عن حماية للغير
التي يمكن أن تتخذ مظهرين:
فقد مكن المشرع الغير من الإحتجاج بعدم معارضته بالبطلان وهو مبدأ مثل بحق الإستثناء الحقيقي لقاعدة
الرجعية وخول الغير الوسيلة القانونية التي تمكنه من التصدي لدعوى البطلان بما يضمن له استمرار عقده
ويثبت مركزه القانوني، وفي ذلك إعلاء لمصلحة الغير وتأييد لحمايته.
وهي نتيجة لامسناها من خلال النصوص التشريعية التي كرست مبدأ عدم المعارضة كالقانون التجاري أو
العقاري أو الفصول المنظمة لعقود الإدارة أو لنظرية الإلتزام بالضمان.
كما تبلورت أيضا من خلال نظرية الظاهر التي كانت وليدة صراع بين الواقع والقانون، بين صاحب الحق
والغير، لينتهي الصراع بترجيح كفة الغير المخدوع بالواقع المرئي على صاحب الحق الذي يدعمه القانون.
لقد مثل تصدي الغير للبطلان مظهرا من مظاهر حمايته وضمان استقرار وضعيته وهو ما عكس في الواقع
رغبة المشرع من خلاله في حماية الإئتمان والإستقرار والثقة في المعاملات.
والملاحظ أن حماية الغير لا تتجسد فقط من خلال مبدأ عدم المعارضة وإنما أيضا من خلال الطعن في
صحة العقد المبرم في حقه بغاية الإضرار به
وفي هذه الصورة يريد الغير الإستفادة من أثر البطلان بمفعوله الرجعي ويتحول البطلان هنا إلى مصدر
حماية للغير طالما أنه يقود إلى نفس النتيجة المتمثلة في ضمان مصالحه وحقوقه المكتسبة.
إذن المشرع سعى لحماية الغير من خلال بعض الوسائل القانونية حفاظا على الأمن والثقة في التعامل. لكن
هذه الوسائل تفتقد النجاعة الكاملة التي تساهم في تثبيت حقه .
فالمتأمل في الفصول القانونية المتعلقة بالغير يتبين قصور هذه الفصول عن الإحاطة بكل الوضعيات التي
يوجد فيها. إذا لم نقل غيابها في كثير من الحالات.
كما أن حماية الغير تفترض وجود الكثير من الشروط التي تبدو في أغلب الأحيان مجحفة، فالغير المستند
إلى نظرية الظاهر مثلا مطالب بإثبات وجود الغلط الشائع أو اعتقاد مشروع أوقعه في الغلط إلى جانب
إثبات
حرصه وعدم تقصيره في الإسترشاد حول الوضعية القانونية إضافة إلى شروط أخرى متعلقة بالتصرف أو
بالغير على حد السواء وكل هذه الشروط المجحفة تجعل التسمك بهذه النظرية أمرا صعبا عمليا خاصة وأن
دورها احتياطي أي لا تتدخل إلا عند الضرورة مما يحد من نجاعتها.
أضف إلى ذلك فإن حق الغير في القيام باعتباره يمثل مستوى آخر لحماية الغير بدوره محاط بشروط كثيرة
كما أن مآل هذه الدعاوى قد لا يرضي في كثير من الحالات الغير الذي يمكنه أن يفقد الحق في استرجاع ما
وقع التصرف فيه بلا وجه لو تعارضت مصالحه مع مصالح الغير حسن النية إذ لا يسعه سوى المطالبة
بالتعويض.
وغني عن البيان أن ضرورة حماية الغير أملتها ضرورة الحفاظ على الثقة والإستقرار في المعاملات لا
حماية مصلحته الفردية لذلك يمكن التضحية بمصالح الأطراف لحماية الغير حسن النية. وانطلاقا من نفس
المرجعية والتزاما بنفس الأسباب يمكن للمشرع أن يضحي بمصلحة الغير حتى ولو كان هو الطرف
الضعيف الذي وقع ضحية الغش والتحيّل، إذا كان في تغليب مصلحة غيره ما يضمن استقرار المعاملات
والنظام العام وأفضل مثال نسوقه في هذا الإطار هو القاصر المتعامل مع الغير حسن النية فالمشرع يغلب
مصلحة الأول على مصلحة الأخير حتى لو كان متحيلا.
إن تعدد هذه العراقيل والحدود ربما تخلف في داخلنا وللوهلة الأولى، شعورا بصعوبة وضعية الغير المحاط
بحماية أقل ما يقال عنها أنها "هشة".
لأنه غالبا ما تقع التضحية بمصالحه وتغليب مصالح أخرى حتى لو كان حسن النية، وفي صورة إقرار
حماية له فإن هذه الحماية تحدها جملة من الشروط الصارمة التي تجردها من أهميتها.
لكن لو تعمقنا في المسألة لتبينا أن الفراغ التشريعي يمكن تجاوزه لو تدخل المشرع ببعض النصوص
الخاصة لمعالجة الإشكاليات القانونية المتعلقة بوضعية الغير.
كما أن كثرة الشروط وإن بدت مجحفة، لكنها مطلوبة
لأن إكساب الغير حقوقا منجرة عن عقد قضي بزواله إعمالا لمبدأ عدم المعارضة بالبطلان أو تمكينه من
إبطال عقد لم يكن طرفا فيه، يعدّ تجاوزا لإرادة الأطراف وخرقا للحرية التعاقدية إضافة إلى المبادئ
القانونية العامة التي تقضي بأن فاقد الشيء لا يعطيه وأن العدم لا يولد إلا العدم وهي مبادئ هامة وراسخة
لا يمكن خرقها لأي سبب من الأسباب بل فقط عندما تقتضي الضرورة العملية ذلك.
كما أن ضرورة الحفاظ على الأمن الجماعي والإستقرار التعاقدي والثقة في التعامل يقتضي تغليب المصالح
العامة والنظام العام على المصالح الخاصة الفردية.
وصفوة القول أن هدف المشرع هو ضمان الإستقرار والأمن لذلك فإن حماية الغير مؤمنة ما لم تتعارض
مع
هذا الهدف ومتى استجاب أيضا الغير لشروط حمايته، لكن يمكن التضحية بمصالح الغير حتى لو توفرت
فيه الشروط القانونية للحماية، إذا تعارضت مصالحه مع مقتضيات النظام العام والمصلحة العامة والإستقرار
في التعامل.
تتحول إلى مبدأ.
0 Commentaires