مفهوم الغير في العقد

 

مفهوم الغير في العقد 

تلعب الإرادة دورا محوريا في إنشاء العقد، الذي لا يمكن تحديد آثاره الملزمة إلا بالنظر إلى الإرادة المشتركة لطرفيه، ومن هذا المنطلق، اعتبر العقد شريعة  الطرفين، لذلك يعرف بكونه توافق إرادتين على إنشاء رابطة قانونية مع تحديد شروطها وآثارها(1)  .

واستنادا إلى هذا التعريف، يصبح العقد مملكة المتعاقدين تتولد عنه لكليهما حقوق وواجبات ويكتسب بمقتضاه الطرفين صفة الدائن أو المدين. فالعقد إذا لا يلزم إلا طرفيه ولا يمكن لغيرهما التدخل فيه لسبب منطقي هو أن العقد لا يجوز أن يكون شريعة " الغير" وهو المعبر عنه بالأثر النسبي للعقد.

لكن هل يمكن الجزم بهذه النتيجة في جميع الحالات، وهل يمكن للغير أن يبقى دائما في منأى عن التغيرات التي تطرأ على العقد باعتباره شأن الطرفين وهما من يتحملا الآثار المترتبة عنه في صورة تنفيذه أو عدم تنفيذه وحتى في صورة بطلانه. وهو الذي يهمنا بالأساس. 

لا يمكننا الخوض في غمار هذه المسألة قبل أن نحدد بدءا من هو الغير لنلمس إن كان يمكن أن يتأثر بعقد لم يكن طرفا فيه أم لا.

&          (1)    الأستاذ محمد الزين : النظرية العامة للإلتزامات ج1 : العقد ط 2 1997

يعتبر مصطلح الغير من المفاهيم الغامضة التي أثارت الكثير من ا لتساؤلات وخلفت كثيرا من الإشكاليات، لصعوبة حصر هذا المفهوم وتقييده بتعريف موحد 

والبحث عن أصل مصطلح الغير يعود بنــا إلـــى القانون الرومانـــي حيث أطلقــت عبـــارة (  ALIIS) على الشخص الذي لا ينفعه الأمر المتفق عليه بين شخصين آخرين ولا يضـــره. ثم أخذ (DOMAT) (1)   هذه الكلمة عن القانون الروماني، إلا أنها أصبحت عنده بما اصطلـــح على  تسميتـــه بالشخص الثـــالث (  La Tierce Personne )  وقد حاول POTHIER (2)  تبسيط هذه الكلمة واكتفى بعبارة ( Le Tiers ) ،وكرس المشرع الفرنسي هذا المصطلح صلب المادة  1165 من م.م.ف التي تنص على أن الشخص الذي يوصف بأنه "غير" لا يمكن أن ينفعه العقد أو يضره

والملاحظ أن الفقه الإسلامي(3)  لم يصغ من مصطلح  " الغير" أو الأجنبي" مفهوما عاما على النحو المتقدم في الأنظمة القانونية السائدة ويعزى ذلك إلى أن الفقه الإسلامي لم يعن بوضع المفاهيم العامة بنفس القدر الذي عني فيه بصياغة الحلول العملية للمسائل الواقعية المطروحة.

وذلك لأن الفقه الإسلامي له ملامحه المتميزة عن الأنظمة القانونية السائدة في هذا العصر من هنا لم تعالج المسائل العملية في ظل هذا الفقه بالطريقة ذاتها التي عولجت بها في الفقه الغربي كما أن الإرادة وإن ساهمت في إنشاء العقد فإن أحكامه وآثاره تكون من عمل المشرع لا العاقد. والتزاما بهذا المنهج ليس ثمة ضرورة "لحياة الغير" (4)  من إرادة المتعاقدين في مواجهة أثر العقد ما دام العقد لا تنظمه إرادة المتعاقدين وإنما يخضع لحكم المشرع.

(1)    أنظر Domat, Lois Civils, III Tome IV Section II n° 15

(2)    أنظر Pothier, Traite des obligations, cit. Par : Philippe Delmas Saint-Hilaire  

&               (3)    الغير عن العقد: دراسة في النظرية العامة للإلتزام تأليف صبري حمد خاطر : الدار العلمية الدولية ودار الثقافة

         للنشر  والتوزيع 2001 ص 19 .

 (4)    الغير عن العقد: مرجع سبق ذكره ص 20

لكن هذا لا ينفي ورود بعض المسائل العملية في التشريع الإسلامي تتعلق بمفهوم الغير ومثال ذلك حماية الغير في مواجهة التصرف إذا تعلق حقه بهذا التصرف ولا يجوز من جانب آخر أن يلزم الغير بموجب تعهد أحد طرفي العقد. فالبائع في تعاقده مع المشتري لا يستطيع أن يلزم المالك لأنه لا يعتبر طرفا في عقد البيع ما لم يجزه. كما نلاحظ في حالة البيوع المتتالية أن المشتري يرجع بالضمان على بائعه المباشر الأمر الذي يفضي بنا إلى القول أن المشتري لا يجوز له الرجوع بضمان العيوب الخفية على البائع الأصلي لأن كلا منهما "غير" بالنسبة للآخر مع ذلك أجاز جمهور الفقهاء المسلمين(1)  أن يكون خيار العقد للأجنبي وهو ما لا يتوافق ومبدأ النسبية العقدية.

لا ريب أن إعتناء الفقه الإسلامي بصياغة الحلول العملية دون محاولة الخوض في جدل نظري حول مفهوم الغير أغناه أي الفقه الإسلامي- عن الوقوع في الإشكاليات القانونية على النحو السائد في الفقه الغربي الذي وضع العلاقات بين الأشخاص في قالب جامد لم تخرج منه إلا بعد جهود فقهية كانت وراء تطور هذا المفهوم.

فقد اعتبر " الغير" في النظرية الكلاسيكية الغربية، كل من كان خارج الدائرة التعاقدية، أي الشخص الذي لم يعبر عن إرادته في تكوين العقد ولا يخضع إلى أثره الملزم. 

من هنا نتبين أن الغير يتعارض بشكل بديهي مع الأشخاص الذين أبرموا العقد، لذلك جرى الفقه على تعريف الغير من خلال تحديد إقصائي للأطراف المتعاقدة. 

وقد عرف الفقيه GHESTIN (2)  الأطراف المتعاقدة بأنهم من شاركوا بإرادتهم في إنشاء العقد فينسحب عليهم أثره الإلزامي ويصبحوا بموجبه دائنين أو مدينين ، وما عدى هؤلاء يعدون غيرا.

&               (1)    إبن علي البيهقي: السنن الكبرى ج 5 دار الفكر بيروت أورده الأستاذ صبري حمد خاطر في كتاب الغير عن

                                             العقد:    مرجع  سبق ذكره ص 19

 (2)     J.GHESTIN : traite de droit Civil : les effets du contrat : 2 ed L.G.D.J 1996 N°38 et S

كما لعب هذا الفقيه دورا كبيرا في خروج مفهوم الأطراف والغير من قالبه الكلاسيكي فاقترح تصنيفا جديدا للتفرقة بينهما (1)  . حيث ميز بين الأطراف المتعاقدة ا لتي عبرت عن رضاها عند تكوين العقد والأطراف المرتبطة التي اكتسبت صفة الطرف عند تنفيذه والعكس أيضا صحيح، وآية ذلك صورة الإشتراط لمصلحة الغير حيث يكون المستفيد من الإشتراط غيرا عند تكوين العقد ليصبح بعد قبوله الإشتراط طرفا عند التنفيذ.

 وسيرا على نفس المنهج عرفت الأستاذة  GUELLFUCCI THIBIERGE الأطراف بأنهم من أنشؤوا العقد  وهم خاضعون للمفعول الملزم للعقد بمفعول إرادتهم أو بمفعول القانون(2)  ثم تحدد الغير  من خلال التفرقة بين الغير الذي لا يشمله الأثر الإلزامي للعقد، ويقصد بهم الغير المطلق والدائنين العاديين لأحد الأطراف و الخلف الخاص والغير الخاضع للمفعول الملزم للعقد أي المستفيد من الإشتراط لمصلحة الغير .

ويخرج الخلف العام عن دائرة الغير لأنه في حكم المتعاقد بالنسبة لأثر العقد فهو يوجد في المركز الذي كان فيه سلفه إذ يعقب المتوفي  في ذمّته ويرى الفقيه VEAUX(3)   أن الخلف العام لا يظهر إلا بعد وقوع الموت فهو كشخص أصبح خلفا عاما ومن ثم يطبق عليه حكم المتعاقد. وعليه لا يلتزم الخلف العام لأنه متعاقد وإنما يطبق عليه حكم المتعاقد فينصرف إليه أثر العقد. 

لكن الخلف العام أو الوارث قد يصبح من الغير بالنسبة لتصرفات المورث الضارة بحقوقه إذا كان التصرف يمس حقه في التركة جاز للوارث الذي يعتبر من الغير أن يطعن في صحّة التصرف ويمكنه إثبات ذلك بكافة طرق الإثبات. (4) 

&  

              (1)  J.GHESTIN : Nouvelles propositions pour un renouvellement de la distinctions des parties et des tiers : RTD civ Octobre Décembre 1994 P 777 et S                

      : la distinction entre les parties et les tiers au contrat JC P 1992 P 513 et S)  J.GHESTIN  

     (2) CATERINE GUELFUCCI- THIBIERGE : de l’élargissement de la notion de partie au contrat … a l’élargissement de la portée du principe de l’effet relatif R.T.D Civ   Avril –Juin 1994 P 275 et S               

      N° 25-26-28-30

                               (3) Daniel VEAUX : contrat et obligation juris-Class. Civ Fasc 40 et 50 1994

                             (4) الدكتور عبد الحكم فودة: النسبية والغير في القانون المدني: دراسة عملية على ضوء الفقه وقضاء النقض: دار

الفكر الجامعي الإسكندرية 1997 ص 60 و ما يلي

 

والملاحظ أنه يوجد أشخاص يحضرون زمن إبرام العقد ويبرم العقد بواسطتهم إلا أنهم ليسوا أطرافا  من ذلك الولي الذي يحمي القاصر أو قاضي التقاديم فهم محافظون على مركزهم كغير(1)  .

وفي الإتجاه ذاته  يرى العلامة السنهوري في كتابه العقد(2)  أن الغير فريقان: فريق يجمع الخلف والدائنين في أحوال إستثنائية فالخلف العام غير عن عقد البيع الذي أبرمه السلف في مرض الموت والخلف الخاص غير عن العقد إلا إذا أثبت أن العقد سابق على انتقال الشيء  إليه وأن الحق الناشئ عن العقد مكمل للشيء، والدائن غير في الدعوى البليانية وفي الصورية. 

وأما الفريق الآخر فيمثله الغير الأجنبي الذي يعتبر بعيدا تماما عن دائرة التعاقد والغير يبقى أجنبيا حتى وإن تأثر بصورة غير مباشرة بالعقد، فالمالك الحقيقي مثلا هو غير عن العقد الذي أبرمه من تصرف في ملكه دون وجه حق والوارث الحقيقي هو غير عن العقود التي يبرمها الوارث الظاهر.

إن حصر آثار العقد بين عاقديه عملا بمبدأ النسبية وإقصاء الغير من الدائرة التعاقدية، وإن كان ممكنا في زمن كانت فيه العلاقات الإجتماعية على قدر كبير  من البساطة مما يصح معه القول أن الغير لا يمكنه أن ينغمس في شؤون عقد هو أجنبي عنه. 

فإن تشعب العلاقات الإجتماعية وتناميها رسخ في الأذهان أن العقد ليس بعالم منغلق على نفسه في منأى عن التغييرات والتأثيرات الخارجية التي قد تلحقه. إذ ليس ثمة ستار عازل يفصل بين العقد والغير، وهو أمر تأكده الضرورة العملية التي أفرزت صيغا جديدة من العقود خرجت عن طابعها التقليدي مما نتج عنه تطورا في أشكال المعاملات الأمر الذي أثبت وبرهن على قصور المفهوم التقليدي بطابعه الفردي والإرادي على استيعاب مختلف الوضعيات  التي يوجد فيها الغير، مما برر تغلغل الطابع الموضوعي الذي لم يعد " مركز الغـــير" فيه قائما على أساس عدم مساهمته الإرادية في العقد، لأن الغير ولئن ابتعد  عن العقد بموجب مبدأ النسبية فإنه يقترب منه كحدث إجتماعي له حجيته  ويؤثر  في وضعيته القانونية وبالتالي يؤثر في مصالحه وهي فرضية تتأكد أكثر في صورة بطلان العقد أين  تطرح مسألة حماية الغير بصورة جلية وواضحة.

&          (1)  CATHERINE GUELFUCCI THIBIERGE : art.P.cit P 275 et s n°28

        (2)    عبد الرزاق أحمد السنهوري: نظرية العقد: دار الفكر بيروت 1998


Enregistrer un commentaire

0 Commentaires