أركان نظرية الظاهر
لقد أجمع رجال الفقه والقضاء على أن لنظرية الظاهر ركنان : ركن يتضمن الملامح الخارجية للوضع الظاهر
وهو الركن المادي (أ) وركن يتعلق بالغير ونقصد به
الركن المعنوي (ب).
أ- الركـن المــادي:
لا تقوم نظرية الظاهر إلا بالإعتقاد في صحة حق ظاهر ويكون الباعث على هذا الإعتقاد وضع
واقعي مشاهد ومستمر لكنه خادع لا يعكس الحقيقة القانونية التي ظلت خافية على الغير
لذا يمكن القول أن الركن المادي يفترض في الوضع الظاهر أن يكون واقعيا مشاهدا، ويجب أن يكون
الوضع الذي شاهده الغير مقترنا بعناصر وملابسات مقنعة ومنطقية إلى درجة تحول دون نفاذ الغير لحقيقة
التصرف الخفي. الأمر الذي يفضي إلى وجود مركزين : مركز ظاهر وهمي وآخر خفي وحقيقي.
وقد يكون مصدر الركن المادي واقعة مادية أو تصرفا إراديا أو حيازة ظاهرة للمركز الفعلي عن طريق
مباشرة مكنات أو إمتيازات أو سلطات أو صلاحيات يمنحها مركز معين(1) . ومن هنا يتضح أن العناصر
المكونة للركن المادي متنوعة ومختلفة. فقد يكون المظهر الخارجي مؤسسا على تصرف قانوني باطل أو
لا وجود له ومثله التصرف المبني على إرادة معيبة لصدورها من ناقص الأهلية أو عديم التمييز وكذلك السند متقن التزوير بحيث يستحيل على الغير إكتشافه. وهو ما سماه البعض بالظاهر عرضا (2)
فما يبرر حماية الغير من هذه التصرفات المعيبة هو أولا إعتقاده الخاطئ في صحتها وثانيا عدم قدرته على إكتشاف عيب
عقد لم يكن طرفا فيه
لذلك بعد تردد إستقر موقف فقه القضاء الفرنسي على أن التصرف القانوني لا يجب أن يترتب عنه إبطال
الحقوق التي انتقلت إلى الغير حسن النية، وهي نتيجة على غاية من الأهمية لأنها تضفي مزيدا من الثقة في
المعاملات القانونية وتمنح استقرارا لوضعية الغير الذي خدع بالظاهر .
&
(1) فتحية قرة: أحكام الوضع
الظاهر : منشأة المعارف الإسكندرية 1986 ص 11
(2) أحكام الظاهر في السجل العيني : الدكتور عبد السيد الجارحي دار النهضة العربية ط 1 1983
وقد تجسد ذلك من خلال جملة من القرارات أهمها القرار المبدئي الصادر عن محكمة التعقيب الفرنسية
بتاريخ 03 أفريل 1963 (1) والذي تفيد وقائعه أن شخصا وهب إبنا له من الزنا عقارا بمقتضى هبة
مستترة، فقام الموهوب له برهن ذلك العقار وبوفاة الأب الواهب قام ورثته على الموهوب له طالبين إبطال
الهبة على أساس أن الإبن غير شرعي، ومن ورائها إبطال الرهن.
إجابة عن هذا الطعن اعتبرت المحكمة أن " الغير حسن النية لا يتلقى الحق إلا من المالك الظاهر ولا من
المالك الحقيقي، بل يمنحه القانون وحيث أن بطلان سند المالك الظاهر وإن تعلق بالنظام العام فإنه لا يؤثر
على صحة البيوعات والرهون التي أبرمها، طالما أن سبب البطلان خفي وهو بالضرورة مجهول من
الجميع"
وغني عن البيان أن الإشهار هو مصدر من مصادر الظاهر، فالإشهار عندما يقوم بدوره في إعلام الغير
بالحقوق أو التحملات أو الوضعيات يكون قد ساهم في الكشف عن وضعيات موجودة، وفي هذا المستوى
يلعب الإشهار دورا إيجابيا في خلق الوضعية الظاهرة وفي تعزيزها وقد سبق في مرحلة متقدمة من البحث
التطرق إلى أهمية الإشهار ودوره في حماية الغير عندما درسناه في إطار القانون العقاري وعملية الإشهار
قد تخلق وضعية ظاهرة تختلف باختلاف موضوعاتها كأن تتعلق بالميدان التجاري أو بالتصرفات المدنية و
المهم في ذلك أن الغير قد ينخدع بهذا المظهر الخارجي ويبني عليه تصرفه لذا كان حريا حمايته وتأسيس
حقه.
كما أن غياب الإشهار قد يفضي إلى نفس النتيجة وذلك بجعل الغير يعتقد في صحة وضعية هي غير مطابقة
للحقيقة والواقع (2) .
والتدليل على ذلك نسوق مثال الزواج الظني أو الزواج الظاهر كأن يعاشر رجل إمرأة دون عقد زواج
يربطهما رغم ظهورهما للعموم على أنهما متزوجين أو أن يكون العقد باطلا لعدم إستيفاء الإجراءات
القانونية.
وقد اعترف بثبوت هذا الزواج لأنه ليس من العادات الشائعة طلب نسخة من الحالة المدنية على الأقل فيما
يخص المعاملات اليومية لذلك أقرت محكمة التعقيب الفرنسية صحة زواج أبرمه ضابط حالة مدنية لا
يملك هاته الصفة (3) .
&
(1) Bull. Civ. I. N° 203 P 174 note Calais Auloy J.C.P
1964 II 13502
(2) Arrighi : Apparence et réalité
thèse P.cit.P3
(3) قرار 1883 ورد تفصيله في مذكرة هاجر البرناط حماية الغير من خلال نظرية الظاهر مذكرة لنيل شهادة الدراسات المعمقة في القانون الخاص
كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس سنة 1998ص 22.
كما ينتج الوضع الظاهر إذا تخلفت في المتصرف السلطة اللازمة مثال الوكيل الظاهر أو أن تكون هناك
حيازة مادية وممارسة فعلية لمكنات الملكية توحي للغير وأنه يتعامل مع المالك الحقيقي في حين يتعلق الأمر
بمالك ظاهر. نفس الشيء إذا ظهر شخص بصفة لا يملكها كالمأمور العمومي فظهور هذا الأخير بتلك
الصفة يبعث في الغير شعورا بالثقة وهو ما يشجعه على إبرام عقد يكتشف لاحقا أنه معيب.
منتهى القول أن الوضع الظاهر هو نتيجة لاختلاف وتصادم بين الحقيقة والواقع، بين القانون والواقع، فقد
يكون الوضع واقعيا لكن غير قانوني كالمالك الظاهر. وقد يكون الوضع قانونيا لكنه غير واقعي كصدور
حكم قضائي بموت شخص. وقد يكون الوضع المادي مخالفا للحقيقة وللقانون وهي صورة الشركة الوهمية.
إن الركن المادي لا يكفي بمفرده لقيام نظرية الظاهر بل لابد من إثبات قيام اعتقاد مشروع لدى الغير
المتصرف إليه يبرر إقدامه على التصرف (ب).
ب-الركـن المعنوي:
إن مفهوم الإعتقاد الشرعي لم يكن مسلما به في بداية إقرار نظرية الظاهر: فلقد كان جوهر الركن المعنوي
لهذه النظرية متغيرا في تاريخ تطبيقها إنطلاقا من الغلط الشائع مرورا بالغلط المشروع، وصولا إلى مفهوم
الإعتقاد المشروع.
لقد استقر القضاء على اعتماد مفهوم الغلط الشائع الذي يستمد جذوره من القاعدة الرومانية المرسلة " الغلط
الشائع يولد الحق" "Error communis facit jus" سواء كان ذلك بمفهومه الموضوعي الذي يفيد
إشتراك جل الناس في الغلط إن لم نقل جميعهم أو بمفهومه الذاتي الذي يفيد أنه يكفي أن يكون الغلط الشائع
مغتفرا ومنطقيا والمعيار في ذلك " رب الأسرة الصالح" حتى يستحق الغير الحماية .
بيد أن التطبيق القضائي لهذا المفهوم، اتسم بالصرامة فاشترط أن يكون الغلط المشترك من النوع الذي
يستحيل على أي إنسان مهما بلغ حرصه تجنبه مما جعل هذا المفهوم قاصرا عن استيعاب الميادين التي
اكتسحتها النظرية حديثا خاصة في مادة الوكالة.
فكان هذا منطلقا للتحول بالركن المعنوي للنظرية إلى مفهوم الغلط المشروع الذي اعتبر أكثر مرونة في
التطبيق (1) .
إلا أن اللجوء إلى مفهوم الغلط الشرعي كبديل للغلط الشائع إنتهى إلى المساس بحق الملكية وهو ما يبرر
إعتماد المعيارين بصورة متوازية، فاقترح الفقه تطبيق الغلط الشائع على التصرفات المدنية والغلط
المشروع على التصرفات التجارية، ثم اقترحوا تطبيق الغلط الشائع على التصرفات الناقلة أو المنشئة لحقوق
عينية عقارية، والغلط الشرعي على التصرفات الأقل أهمية (2) .
بيد أن ثنائية الركن المعنوي هددت استقرار هذه النظرية وحالت دون قيامها بصفة متكاملة. لذا تصديا لهذا
النقد اقترح الفقه مفهوم الإعتقاد المشروع كمكون وحيد للركن المعنوي يقوم على أنقاض المفاهيم السابقة ،
وهو اتجاه أقره القضاء الفرنسي في القرار المبدئي في 13 نوفمبر 1962 .
ويقوم هذا المفهوم على
معيار حسن النية لدى الغير سواء كان حسن النية بمعنى الجهل (أ) أو بمعنى سلوك (2) .
1) حسن النية الجهل:
يعتبر حسن النية من المفاهيم المتشعبة التي يصعب رسم حدودها، لذلك فقد اختلفت الآراء في تحديد هذا المفهوم.
فقد ذهب البعض إلى إكسائه طابعا أخلاقيا من ذلك العميد Ripert الذي اعتبر أن "فقدان الدقة في مفهوم الأخلاق
الحميدة يقربها من حسن النية علاوة على اتحادهما في المصدر الأخلاقي"(3). كما قرنه البعض الآخر(4) بقواعد
العدل والإنصاف وهو ما يؤكد ما توصلنا إليه بدءا من كون حسن النية من المفاهيم المتغيرة وغير المستقرة.
&
(1) Apparence et Représentation en droit positif
Français Chung WU CHEN LGDJ 2002
(2) Apparence et
Représentations en droit positif Français OPCIT P 121
J. ghestin goubeaux op.cit P 775
(3) ٍريبار Ripert القاعدة الأخلاقية في الإلتزامات المدنية ص84
نقلا عن حسين بن سليمة في كتابه حسن النية في تنفيذ
العقود حسب أحكام ف
(4) CAEN (L) l’évolution de
لا ريب أن حسن النية في نظرية الظاهر يعني بدء الجهل بالوضعية الحقيقية أي أن الغير لا يعلم أنه يتعامل
مع مالك ظاهر لا يملك صفة أو يجهل أن الحق الذي انـــجر له أساســه سنــد باطل. إذا وقوع الغير في
الغلط يبرره في الواقع حسن نيته واعتقاده الراسخ أن الشخص المتعامل معه هو المالك الحقيقي وأن سنده
خال من كل العيوب وهو ما يفيد وجود قصور وخطأ في جانب الغير في استيعاب وتقبل الوضعية الواقعية.
إن حسن النية مقترض في كل إنسان لأنه من الصعب إثبات ما يعتمل في نفوسنا أو ما يجول بضمائرنا ربما
تكون المهمة أيسر لو أثبتنا سوء نية الغير باعتبارها حالة نفسانية يمكن رصد تداعياتها من خلال بعض
التصرفات وبعض المواقف.
لذلك أكد الفقهاء (1) أن مجرد الإعتقاد الذاتي غير كاف لتأسيس حقوق من خلال الظاهر لذلك يجب تجاوز
هذا المفهوم النفساني ورسمه في إطار واقعي معتبر * .
2) حسن النية بمعنى
السلوك
إن تأسيس حسن النية على مجرد الجهل بالواقعة قد يفضي في بعض الحالات إلى حماية السذج والمغفلين،
وهو ما لم تتجه إليه إرادة المشرع. فالإعتقاد المغلوط لا يعني أن يكون الشخص بالضرورة مهملا، أعمى
البصيرة بل بخلاف ذلك يفترض في جانبه الحرص والحذر.
وعليه اعتبر الفقهاء أن الجهل الناجم عن الإهمال والتقصير الممكن اجتنابهما يقصي حسن النية وتجعل
الغير سيئ النية لأنه ارتكب خطأ بإهماله.
من هنا نتبين أن الغلط المغتفر دون سواه هو الذي يؤخذ بالإعتبار في تحديد حسن نية الغير. وهذا الأخير
ملــزم بأخذ كـــل الإحتياطـــات اللازمة و بتوخي الحذر طبقا لما يقتضيـــه القانـــون والعرف والعادة
ومعياره فــي ذلك " رب الأسرة الصالح".
والجدير بالملاحظة، أن الشخص الذي إستراب صحة تصرف مطالب بمضاعفة حرصه حتى بقطع شكه
باليقين. فإذا شك في صحة التصرف ورغم ذلك تعاقد فالقضاة يعتبرونه سيئ النية (2) .
& (1) َArrighI thèse P. CIT P 553
(2) Civ. Ambert, 29 Juin 1954 J.C.P 1954 II P 192
وهو ما يقودنا للحديث عن واجب الإستعلام المحمول على الغير فهذا الأخير مطالب بالتقصي والإسترشاد
عساه ينفذ لحقيقة التصرفات التي قد يشوبها لبس أو غموض ومنهجه في ذلك معيار الرجل الحريص الذي
وضع في نفس الظروف والملابسات والتزامه هنا هو التزام ببذل عناية فقط والقاضي في إطار حسمه
للنزاع يأخذ في الإعتبار مدى الجهد الذي بذله الغير لمعرفة الحقيقة وكذلك سنه ومستواه الثقافي وكونه
محترفا أم لا لأنها عناصر تؤثر بصورة أو بأخرى في الحكم (1)
كما ينظر أيضا إلى طبيعة العملية ، فإذا كانت من قبيل التصرفات التجارية التي تتطلب السرعة فإن
القاضي يشترط في الشخص اليقظة والحذر دون أن يؤدي ذلك إلى تعطيل المبادلات (2) . أما التصرفات
الخاصة والغير عادية فالغير مطالب
بمضاعفة حرصه إستجابة لخطورة التصرف (بيع
عقاري مثلا) .
وقد وضع المشرع تحت تصرفه جملة من الآليات للوصول إلى هذه الغاية من ذلك حق وواجب الإطلاع
على السجلات خاصة في مادة العقارات كما سبق بيانه. كذلك إمكانية الإطلاع على السجل التجاري للتثبت
من سلطات الوكيل
التجاري،أو مطالبة الوكيل برسم توكيله عملا بالفصل
زد على ذلك، فالغير مطالب بالتثبت طبقا لقانون 9 نوفمبر 1998 المتعلق بنظام الإشتراك في الملكية بين
الزوجين، من أن الزوج المتعامل معه يخضع لهذا النظام أم لا. ونفس الشيء في حالة المدين المفلس الذي
تعامل معه الغير، فهذا الأخير لا يعذر بجهله إذا لم يقم بالإطلاع على الحكم القاضي بتفليسه الواقع نشره
برحاب المحكمة وبباب المركز التجاري للمفلس وبالرائد الرسمي طبقا للصيغ القانونية.
من خلال ما سبق بسطه نتبين وأن قيام الوضع الظاهر تجاه الغير يختلف باختلاف الوقائع والملابسات،
ويقدر بمدى ردة فعل الغير إزاء هذا الوضع الذي وجد فيه . وهي أمور تخضع إلى إجتهاد قضاة الأصل
الذين لهم سلطة تقديرية مطلقة في تقييم العنصر المادي والمعنوي للظاهر ويخضعون في ذلك لرقابة
محكمة التعقيب التي تتأكد من صحة تكييف القضاة للوقائع المادية المعروضة أمامهم (3)
&
(1) « lorsque le tiers est un
professionnel sa conduite sera jugée plus rigoureusement que s’il s’agit d’une personne sans compétence » ARRIGHI thèse P.cit P 554
a ce propos
arrêts : - Lambert FAIVE R.T.D. Civ 1996, 766 n°5 - Com 5 avril
1965 Bull Cvi. 1965 III n°225 P228
(2) – la protection de l’acquéreur de bonne foi en matière
mobilière : François Guisan édition Rene
THOMEY – Dupraz –
Lausanne 1970
(3) ِ* Cass. Civ. 1er, 30 Novembre 1965 note (Alais-Auloy)
arrêt 13 juin J.C.P. 1967 II , 15217*
إن دراسة أركان الظاهر مكنتنا من الوقوف على أهمية هذه النظرية التي تتجسد من خلال دورها الحمائي
0 Commentaires