عقد الكراء
أن نحمي الغير يعني أن نوفر له قدرا من الإستقرار في وضعيته وتمكينه من الإنتفاع بحقه دون شغب وهي فرضية لا يوفرها التعويض المالي كمقابل للضرر الذي سيلحقه جراء زوال عقده، ولكن يوفرها الإبقاء على عقده والإبقاء على حقه بالتوازي في الإنتفاع بالعين رغم البطلان وهو أهم مظهر من مظاهر الحماية التي تتجلى بوضوح في عقد الكراء.
فإذا ما أبطل سند ملكية المؤجر لأي سبب من
الأسباب كفقدان الأهلية أو عيب في الرضي
أو إذا لم يحترم العقد بعض الشروط الشكلية الواجبة كأن يتعلق الأمر بعقد هبة لم
يحترم فيها المتعاقدان شروط الفصل
فإنه إعمالا للأثر الرجعي للبطلان يعتبر المؤجر كأن لم يكن مالكا للعين المأجورة في أي وقت من الأوقات وكنتيجة لذلك فإن التصرفات الصادرة منه تعدم هي الأخرى بمفعول البطلان. مثل هذا الحل لا ينطبق في علاقة المؤجر بالمستأجر ، فهذا الأخير باعتباره غيرا عن العقد الأصلي يظل عقده قائما، و لا يحرم حقه في الإنتفاع بالعين المأجورة.
هذه الفرضية تتبلور أكثر في الأحوال التي يصدر
فيها الإيجار عن شخص يبدو أنه ذو حق ثم يزول هذا الحق رجعيا إذا اتضح أنه لم يكن
قائما من أساسه وهي صورة الإيجار الواقع على ملك الغير، كأن يكون المؤجر وارثا
ظاهرا، فتصرف هذا الأخير في أعيان التركة يعد تصرفا في ملك الغير وبالتالي هو باطل
لكن أجمع الفقهاء على اعتبار الإيجارات التي قام بها الوارث الظاهر نافذة ، وقد
فسروا ذلك برغبة المشرع في استغلال الأموال التي غفل عنها الوارث الحقيقي وفي
حماية المتعاقدين على هذا الإستغلال متى كانا كلاهما حسن النية(2) وهي نفس صورة الحائز حسن النية الذي يقوم بإيجار
العقار معتقدا أنه مالك.
منتهى القول أن الإيجار الصادر من المالك الظاهر
يبقى نافذا في حق المالك الحقيقي وهي نتيجة أكدها الفصل
&
(1) الفصل
(2) شرح عقد الإيجار : سليمان مرقس 1953 دار النشر للجامعات المصرية القاهرة 1984
من خلال هذا الفصل نتبين وأن عقد الكراء يظل بمنأى
عن كل التغيرات التي من شأنها التأثير في حقوق ووضعيات المالك. فعقد المستأجر باق
حتى ولو أبطل عقد مؤجره لأي سبب من الأسباب القانونية.
لكن ليستفيد المستأجر من هذه النتيجة لا بد وأن
يستجيب عقده لجملة من الشروط.
أهمها أن يكون سنده ثابت التاريخ وثبوت التاريخ
يختلف باختلاف نوع الكتب فإذا تعلق الأمر بحجة غير رسمية طبقت مقتضيات الفصل
لا يكفي أن يكون عقد الإيجار ثابت التاريخ بل يجب
أن يكون هذا العقد سابقا لزوال سند ملكية المؤجر لأن أسبقية عقد المستأجر تعني
أسبقية حقه الأمر الذي يبرر بقاء عقده بالرغم من إندثار سند ملكية معاقده.
وغني عن البيان التأكيد على ضرورة توفر حسن النية
في جانب المكتري إذ يشترط في عقد الكراء ليظل ساري المفعول ألا يكون مشوبا بغش أو
تدليس لأن الغش يبطل التصرفات، فما المقصود بالغش في هذا الإطار؟
إن عبارة التدليس أو الغش تقتضي غياب حسن النية. فالمستأجر يمكن أن يحافظ على عقده إذا اتضح أنه يجهل سبب البطلان أو أن معاقده غير مالك. أما بالنسبة للمؤجر فقد اختلفت الآراء(2) فذهب بعضهم إلى إعتبار عقد الإيجار نافذا في حق المالك الحقيقي الذي آلت إليه الملكية بعد زوال العقد متى كان المؤجر حائزا العين المأجورة ولو كان سيئ النية مادام المستأجر حسن النية، وقد أسسوا رأيهم على اعتبار المالك الحقيقي مخطئا في ترك المؤجر الظاهر يستأثر بالحيازة، وهو ما يجعله مسؤولا عن الغلط الذي وقع فيه المكتري حسن النية.
أما الإتجاه الآخر يشترط حسن النية في جانب طرفي عقد الإدارة لأن نفاذ الإيجار الصادر ممن لا يملك لم يتقرر لحماية المستأجر فقط وإنما أيضا لحماية المؤجر.
يعتبر هذا الرأي أكثر وجاهة لأن عبارة غش تفترض في كل الحالات وجود تصرف إيجابي من الجانبين أي وجود تواطؤ بين المكري والمكتري وذلك بقصـــد الإضـــرار بالمالــك الحقيقـــي، فلــو أن
&
(1) فيما يتعلق بالحجة
الرسمية عودة للفصول 442 إلى
(2) سليمان مرقس : مرجع سبق ذكره
المشتري شعر بأن البائع سيبطل العقد لغلط وقع فيه أو وقع تحت التغرير أو غيره من أسباب البطلان فبادر إلى تأجير العقار وكانت الإجارة تجافي المألوف بالنسبة للعين سواء من حيث المدة أو الأجرة، وفي المقابل يساعد الغير المشتري بقبوله الإيجار رغم علمه أن سند معاقده آيل للزوال. لذا فإن مجرد علم المستأجر بأن معاقده هو غير مالك وأن سنده مهدد بالبطلان ينفي عنه حسن النية فلا يمكنه الإحتجاج بقيام وضع ظاهر تجاهه أوقعه في الغلط، لذلك يمكن للمالك الحقيقي إبطال العقد متى عنّ له ذلك .
خلاصة القول أن عقود الإدارة متى توفرت شروط نفاذها تظل قائمة حتى ولو تقرر البطلان واقتضى الأمر إعادة الحال إلى ما كانت عليه.
بيد أن هذه النتيجة تثير تساؤلا لماذا نبقي على أعمال الإدارة التي أبرمها شخص اعتمادا على سند ملكية تقرر إبطاله؟
إن إرادة الإبقاء على هذه العقود يعزى في الحقيقة إلى طبيعة هذه العقود نفسها، فعقد الإدارة يمثل مظهرا من مظاهر التصرف الجيد" La bonne gestion " في العين التي تخول للشخص حق استغلال واستثمار ذمته المالية بما يعود عليه بالنفع.
فمن وجهة نظر
إقتصادية نبقي على عقود الإدارة لأنها تكون في مصلحة الشيء ولأنها لا تؤثر
في حق من تستقر له الملكية لذلك يبدو من غير المنطقي ومن غير المقبول محو آثار
العقد والتوقف عن استغلال العين بدعوى
الشك في شخص المالك(1) وحتى
في صورة ثبوت هذه الشكوك وأبطل العقد فالمهم هو استمرار العين في القيام بدورها
الإقتصادي ما دام الإيجار لا يضر بمصلحة من تستقر إليه الملكية.
ومن هذه الزاوية فإن عقد الإدارة هدفه إقتصادي بحت وهو بذلك من قبيل العقود النافعة التي هي في مصلحة الشيء دون إلحاق الضرر بمن تؤول له الملكية في الأخير.
إذن عقد الكراء يوفر حماية مطلقة للغير الذي لن
يخشى سريان آثار البطلان على حقه ويمكنه
تبعا لذلك التمسك بعقده وهي صورة تتأكد أيضا في إطار عقود التأمين.
&
(1) « d’un point de vue
économique in serait inconcevable qu’un bien ne puisse produire des richesses
en raison d’une incertitude
planant sur la personne de propriétaire » …J.P. ARRIGHI : thèse p cit p 234
0 Commentaires