عقد التأمين
كسائر العقود، يخضع عقد التأمين لجملة من الشروط العامة والخاصة لتكوينه، وفي تخلف هذه الشروط يختل العقد ويصبح البطلان بأثره الرجعي هو المنطق الساري.
وخطورة الأثر الرجعي تبلغ منتهاها في عقود تأمين المسؤولية عن حوادث السيارات.
فالمتطلع في واقعنا وعصرنا يلمس أن ا لسيارات باتت من اللوازم الضرورية في حياتنا. وفي المقابل وسيرا على درب التقدم وتأقلما مع متطلبات عصر السرعة باتت سرعة السيارات حمى العصر التي يذهب ضحيتها آلاف الأشخاص بالنظر لتفاقم حوادث المرور.
وفي تونس الأرقام والإحصائيات مرعبة جدا، فألف قتيل وإحدى عشر جريح سنويا(1) أي بمعدل حادث كل 51 دق و56 ث وجريح كل 41 د و 6 ث(2) .
إن حوادث المرور من الفواجع المرعبة التي تخرس في كل إنسان الإحساس بالأمان وتخلف في نفسيته شعورا بالألم لضياع المال والصحة والسند وهذه الخسائر تتجاوز إطار الأفراد لتمس بالمنظومة الإجتماعية ككل .
هذا العرض لواقع الحوادث ومخلفاتها المأساوية على حياة الأفراد، يخلف في داخلنا هاجسا يتعلق بجسامة خطر البطلان على الغير بمعنى لو سايرنا حكم القانون وأنتج البطلان آثاره، فالغير سيفقد الحق في التعويض لأن العقد والحال كذلك لم يعد له وجود قانوني. وبذلك سيفقد كل شيء : فقدان الصحة وتناثر الأموال واندثار الحق وضياع المصالح. فما السبيل لحمايته ؟
بتصفح مجلة التأمين لم نعثر على فصل قانوني يحمي
الغير من البطلان. فالمشرع وإن اعتبر أنه " لا ينسحب الإيقاف أو الفسخ على الغير حسن نية المستفيد من
التأمين بمقتضى انتقال سابق عن حصول أي ضرر وعن الإعلام بالإيقاف أو الفسخ"(3) فإنه
لم يسحب هذا الحكم على الغير في حالة بطلان عقد التأمين.
&
(1) محمد الزين : التقديم الإفتتاحــي ملتقى الأعمال
الكاملــة: التأمين فــي حــوادث المرور المنتظــم بمدينــة سوســة يومــي 22 و23
أفريل 1994 .
(2)
الأخطار المؤمنة : المنصف
الفلي نفس الملتقى المنتظم بمدينة سوسة.
(3) فصل 11 من مجلة التأمين
وبما أننـا فـي إطـار عقـد خــاصّ بهـم تأمين المسؤوليـة عن حوادث الطـرقات فقـــد عـدنا للقانــون عــ21 ــدد لعام 1960 مؤرخ في 30 نوفمبر 1960 المتعلق بجميع العربات البرية ذات المحرك الذي أورد تفصيله في الأمر عدد 8 المؤرخ في 30 جانفي 1961 .
وقد جاء بالفصل 5-2 أنه " يمكن معارضة ضحايا الحوادث ببطلان أو توقيف العمل بالعقد وبتوقيف الضمان وعدم التأمين".
وبطلان عقد التأمين يكون
لأسباب تعود للنظرية العامة للإلتزامات كعيب يشوب إرادة المتعاقدين أو لمخالفة
العقد للنظام العام والأخلاق الحميدة وهو أمر أكده بعض الفقهاء(1) في خصوص المغالاة في التأمين " Sur - assurance frauduleuse" إذ أن إبرام عقد تأمين بمبلغ أكبر من قيمة الشيء
المؤمن مع نية تحقيق الربح يتعارض ومبدأ التعويض ويكون كنتيجة لذلك إنتهاكا للنظام
العام والأخلاق الحميدة طبق الفصل
أو كذلك لأسباب خاصة بعقد
التأمين الواردة بالفصل
إذا من خلال أمر جانفي 1961 نتبين وأنه يمكن معارضة الغير بالبطلان، فهل يعني ذلك ضياع حقه رغم ثبوت الضرر؟
لئن اعتبر النظام الوجوبي للتأمين أول مظهر لضمان التعويض وحماية المتضررين فإن إحداث صندوق لفائدة ضحايا حوادث السيارات(2) بالمرسوم عدد 23 في 30 أوت 1962 يشكل مظهرا ثاني للحماية ويكتسي أهمية بالغة لأنه يمكن المتضررين من التعويض عن الأضرار الجسدية أو من يؤول لهم الحق إذا لم يقع التوصل لمعرفة المسؤول عن الأضرار وهو ما أكدتـــه محكمـــة التعقيـــب عندمـــا
&
(1) الأستاذ محمد الزين :
دروس في قانون التأمين : محاضرات مرفوقة
لسنة 1999- 2000
(2) أنشأ بفرنسا بقانون 23 سبتمبر 1958
أقرّت أن " صندوق ضحايا حوادث السيارات حسب
الدور الذي يقوم به ...خلاص الغرامات لضحايا حوادث السيارات أو لمن يؤول لهم حقهم
إذا لم يقع التعرف عن المسؤول عن الأضرار أو تبين أنه غير قادر عن الدفع حسب الفصل
1 من مرسوم عــ23ــدد(1) ".
وقد جاء بالفصل 9 من هذا القانون أنه" لا يمكن ما دام المؤمن مليا أن تقع مطالبة صندوق الضمان بدفع الغرامة المخولة له للمتضرر أو لمن يؤول لهم حقه إلا في صورة بطلان العقد أو توقيف العمل به أو بالضمان أو في صورة عدم وجود تأمين شامل أو تأمين جزئي يمكن معارضة المتضرر أو من يؤول لهم حقه بهما".
من هنا نستخلص أن صندوق
الضمان مثل بالفعل حماية ناجعة للغير هذه الحماية لم تترجم بتمسك الغير بالعقد كما
سبق بيانه بل ترجمت من خلال التعويض المالي الذي يبدو في هذه الصورة حلا عادلا
وحماية أنجع بالنسبة إليه .
وللتوصل
إلى هذه النتيجة اقتضى أمر 1961 أن يستجيب الغير لجملة من الشروط ويتبع جملة من
الإجراءات(2) ليس المجال كاف لسردها. لكن يمكن تلخيصها في كون
المتضرر مطالب بتقديم مطلب لصندوق الضمان مصحوبا بنسخة مجردة من الحكم العدلي
الصادر في القضية أو بنسخة مشهود بمطابقتها للأصل من الحجة المحررة في إبرام
اتفاقية صلح في شأن تعيين مقدار الغرامة بصورة نهائية.
والجدير
بالذكر أن صندوق الضمان لا يعوض إلا الأضرار الجسدية(3) فقط بمعنى : ما يصيب الإنسان في سلامة جسمه وحياته كقصور أو عجز
مستمر أو عاهة وما يخلفه ذلك من شعور بالنقص والعجز والألم والوحدة ونتحدث هنا عن
ضرر معنوي . أما الأضرار المادية المتعلقة بالمصالح المالية للمتضرر فتخرج من دائرة
الضمان.
إن إحداث المشرع التونسي لصندوق الضمان ينبئ
عن هاجس في حماية أكبر عدد ممكن من ضحايا
الطرقات وتخويلهم فرصا أكبر للتعويض ولو كان عقد التأمين الرابط بين المؤمن
والمؤمن له باطلا وهو موقف لم تتوان محكمة التعقيب (4) عن تكريسه حيث أكدت أنه " طالما ثبت حالة
بطلان عقد التأمين فلا سبيل لمعارضة المتضرر بها وما على شركة التأمين إلا الرجوع
على المؤمن"
&
(1) قرار تعقيبي عدد 8379
مؤرخ في 19 /11/ 2001 غير منشور
(2)
هذه الإجراءات وارد
تفصيلها بالفصل 9 من الأمر وما يليه (أنظر الملحق)
(3) حول مفهوم الأضرار
الجسدية ينظر إلى مقال " تحديد الضرر المادي والمالي من حادث المرور محمد
بلحسن وكيل رئيس المحكمة الإبتدائية بسوسة " ملتقى الجهوي بسوسة سبق ذكره
(4) قرار تعقيبي عدد 10768
صادر بتاريخ 17 أفريل
هذا الموقف تبرره إعتبارات إقتصادية واجتماعية
وأخلاقية يمكن تلخيصها في كلمة إعتبارات "إنسانية" .
يتلخص مما سلف أن عقود الإدارة سواء عقد الكراء أو
عقد التأمين يوفران حماية ناجعة للغير إذا ما استجاب هذا الأخير للشروط التي
يقتضيها القانون.
هذه الحماية تبررها تارة ضرورة المحافظة على العقد رغم بطلان سند ملكية معاقد الغير باعتبار أن هذه العقود في صالح الشيء و لا تضر بمصالح المالك الحقيقي.
أو تبررها اعتبارات أخلاقية واجتماعية وإنسانية
تفضي إلى ضرورة التعويض رغم بطلان عقد التأمين تارة أخرى.
هذه العقود مثلت إستثناءا حقيقيا لقاعدة الرجعية،
لكن درجة الحماية تختلف باختلاف نوعية العقود. لذلك كان لزاما البحث عن هذه
الحماية في إطار نظريات أخرى ولعل نظرية الإلتزام بالضمان قد تلبي الطلب
0 Commentaires