حماية الغير من بطلان العقد
لئن تدرجت مراتب البطلان بين بطلان مطلق وآخر نسبي فإن الأثر المترتب عنهما واحد. وهو إعدام العقد وزواله في الماضي وفي المستقبل، وينسحب هذا الأثر على العاقدين ويمتد إلى الغير كما سبقت الإشارة إليه وفي ذلك خطورة كبيرة على مصالح الغير الذي يجد نفسه بين عشية وضحاها مجردا من حقوقه التي اكتسبها بمقتضى العقد.
فلو باع شخص عقارا إلى مشتري وتصرف فيه هذا الأخير بالبيع أيضا أو وظف عليه رهنا ثم تبين أن العقد الأصلي الرابط بين البائع والمشتري باطل. فما مصير العقد الثاني؟ إعمالا للمفعول الرجعي للبطلان فإن كل الحقوق المنجرة من العقد الأول تزول أيضا بأثر رجعي، أي أن المشتري الثاني أو المرتهن سيزول عقدهما وتزول تبعا لذلك كل الحقوق المنجرة لهما من العقد الأصلي.
تظهر هذه النتيجة قاسية ومجحفة في حق الغير. فهل من العدل والإنصاف أن تزول حقوقه بزوال عقد لم يكن طرفا فيه بل ولم يكن على بينة من العيوب التي تعتريه؟ وإن كان الأمر كذلك فعلى أي أساس يتحمل آثار هذه النتيجة؟ وهل يمكن الإقرار من هنا فصاعدا بأن العقد شأن عاقديه وبأن الغير لا يضار بهذا العقد؟
تبدو الوضعية القانونية للغير على غاية من الدقة إذ لا يمكنه من جهة أن يقف موقف اللامبالاة تجاه العقد الذي لم يكن طرفا فيه خاصة وأن الحقوق المنجرة له من هذا العقد
مهددة بالزوال ومن جهة أخرى لا يمكنه في مواجهة ذلك التمسك بعقده وتجاهل آثار البطلان لأنه في هذه الصورة سيصطدم بالقاعدة الأصولية أن ما بني على باطل فهو باطل.
ومن هنا تطرح مسألة حماية الغير وكيفية الحفاظ على حقوقه وعلى مصالحه حيال إرادة المتعاقدين وهي مسألة لا يمكن بلوغها إلاّ بعد تزويد الغير بالوسائل العملية والقانونية التي تخوله التصدي للمفعول الرجعي للبطلان والتمسك بعقده وبكل الحقوق المتولدة عنه.
بيد أن مصالح الغير لا تهدد فقط من خلال زوال عقده بمفعول البطلان، وإنما أيضا من خلال إقدام الأطراف المتعاقدة على تنفيذ عقد باطل أو قابل للإبطال، وفي تنفيذ العقد والأمر كذلك ما يقوض حقوقه ويضر بمصالحه خاصة إذا كان أساس هذا التصرف الغش أوالغاية منه هي إلحاق الضرر بالغير فالمدين المعسر قد يعمد لإبرام عقد مع الغير بغاية التفصي من ملاحقة دائنه الذي يجد نفسه إثر هذا التصرف مجردا من حقه في استخلاص دينه باعتبار أن الأموال موضوع ضمانه العام قد خرجت من بين يديه إثر عملية التفويت التي قام بها المدين.
ونفس النتيجة يمكن سحبها على الورثة بالنسبة لعقد البيع الذي أبرمه مورثهم في مرض الموت إضرارا بحقوقهم وكذلك المالك الحقيقي الذي يجد نفسه بمقتضى تصرف صادر من فضولي مجردا من حقه في ملكية شيء يعود في الأصل إليه.
إذا فالدائن والورثة والمالك الحقيقي يعدون من الغير كما سبقت الإشارة إليه. وهم مهددون بزوال حقوقهم إثر تنفيذ عقود باطلة أو قابلة للإبطال الغاية منها الإضرار بمصالحهم. فكيف يتسنى لهؤلاء تجميد آثار هذه العقود والحيلولة بالتالي دون تنفيذها في حقهم .
إذن في هذه الصورة أيضا تطرح مسألة حماية الغير التي لن تتحقق هنا إلا من خلال إيجاد الآلية القانونية الملائمة لتجميد مفاعيل العقد والتصدي لإرادة الأطراف الراغبة في تنفيذه غشا وتدليسا.
من خلال المثالين السابقين نتبين أن حماية الغير في العقد الباطل تطرح إشكالات نظرية وعملية على غاية من الأهمية.
فالتصور الكلاسيكي لمفهوم الغير ثبت قصوره عن استيعاب الإشكاليات القانونية المطروحة إثر التطور المستمر في العلاقات الإنسانية والذي أدى إلى ظهور صيغ مستحدثة في التعامل.
وهو ما أفرز تعارضا بين التأصيل النظري لهذا المفهوم والواقع العملي خاصة بعد أن ثبت عمليا أن العقد حدث إجتماعي يتأثر به الكافة.
مما يصح معه القول أن الضرورات العملية فرضت انصراف آثار العقد إلى "الغير" بغض النظر عما إذا كان قصد هو أن يلزم الغير أو يكسبه حقا (1) ومن هنا اعتبر الفقيه WEILL أن مفهوم الغير يختلف باختلاف الوضعية القانونية التي يوجد فيها(2) وهو ما سمح لنا بالقول أن حماية الغير لا تشذ عن هذا المنطق ونقصد بذلك أن درجة الحماية تتباين بتباين الوقائع وتختلف باختلاف مركزه القانوني حيالها.
فالغير المهدد بإهدار حقوقه لاندثار عقد سلفه يختلف عن الغير المتضرر من عقد أبرم في حقه بناءا على الغش والتدليس.
وعليه فإن ردة فعل الغير الأول إزاء العقد الباطل تختلف عن ردة فعل الغير الثاني.
& (1) A. WEIL : le principe de la relativité des conventions en droit privé français op.cit p 395
(2) A. WEIL: le principe de la relativité des conventions en droit privé français op.cit p 397
فالأول سيحاول رد دعوى البطلان بغاية الحفاظ على عقده، وأما الثاني فإن غايته أيضا هي التمسك بالعقد وبكل الحقوق المنجرة له منه . وحيال ذلك لن يقف موقف المدافع ويكتفي بالتصدي للبطلان وإنما سيتخذ موقفا مغايرا. ويبادر بإبطال العقد الذي انتهك حقوقه تصديا لإرادة الأطراف المتعاقدة التي ترغب في تنفيذ العقد . وهنا يصبح البطلان بأثره الرجعي هدفا وغاية تحرك الغير لبلوغ غاية أكبر هي ضمان أمنه واستقراره التعاقدي.
لذا، يمكننا القول أن حماية الغير حيال إرادة المتعاقدين هي من صلب مفهوم الغير.
وهذا المفهوم كما سبقت الإشارة إليه من المفاهيم الغامضة التي تزداد تعقيدا بتطور العلاقات مما يفترض عدم وضعه في قالب جامد ويحتم بالتالي خروجه عن التصور الكلاسيكي لأن خاصية التطور والحركية التي تطبع هذا المفهوم تتعارض بشكل كلي مع القوالب الجامدة التي تلبسه وبالتالي فإن مدى حماية الغير ترتبط بمفهومه بدءا وبالمركز القانوني الذي يشغله إنتهاءا ويكفي أن نقر اليوم أن النظرة المستحدثة التي أصبغها الفقه والقضاء بمفهوم الغير خاصة في التجربة الفرنسية ساهمت في بلورة حمايته التي بلغت ذروتها لما طبق القضاء أحكام المسؤولية العقدية على أشخاص يوصفون تقليديا بأنهم من "الغير"(1) .
يستخلص إذن أن حماية الغير في العقد الباطل تكتسي بعدا نظريا هاما مأتاه غموض مفهوم الغير وارتباط الحماية بهذا المفهوم.
كما أن إهدار حقوق الغير بدعوى بطلان سند لم يكن طرفا فيه قد يلقي الكثير من الظلال على حكم القانون ويجعل الغير يحجم عن التعاقد لشعوره بعــدم الثقـــة فــــي التعامـــل أو
& (1) الغير عن العقد مرجع سبق ذكره ص 150 و ما يليه
لخوفه من تقوض حقوقه التي اكتسبها بمقتضى عقد سيحكم عليه بالزوال كنتيجة لبطلان العقد الأصلي الذي أبرمه سلفه. وفي ذلك خطر كبير على الإستقرار والأمن في المعاملات.
ونفس الشيء بالنسبة للغير الذي وقع الإضرار بمصالحه بمقتضى عقد أبرم في حقه
ففي كلتا الحالتين الغير يجد نفسه محتاجا لحماية تشريعية تكفل له استقرار وضعه وضمان حقه . وهنا نتساءل هل أمن المشرع التونسي حماية الغير في العقد الباطل بما يضمن له الأمن والإستقرار التعاقدي؟
ولكن يثور في هذا الإطار إشكال عملي وقانوني على غاية من الأهمية.
فلو ارتبطت مصالح الغير الذي تضرر من حكم البطلان والغير الذي يريد توقيف تنفيذ العقود المبرمة في حقه بنفس العقد فإنه ستطفو على السطح مسألة تنازع مصالح الغير وضرورة حسمها التي ترتبط أيضا بما يشهده الواقع العملي المعاصر من تطور لإشكال العقود وتضخم في حجم المعاملات وتطور في أساليبها فالعقد تجاوز إطاره التقليدي الذي يقوم على الثنائية لتظهر صيغا جديدة للعقود تستوعب العلاقات الثلاثية أو ما يسمى بالمجموعة العقدية وهو ما يؤثر في توجه المشرع الذي ربّما يفضل الحفاظ على المصالح المتحركة ومعها الأمن الحركي على المصالح الجامدة أو الأمن المستقر التزاما بمقتضيات النظام العام الإقتصادي والإستقرار التعاقدي وهو ما يؤدي إلى تفضيل الغير الأول عن الغير الثاني
ومن هنا نتبين أن مدى حماية الغير ترتبط إذن بضرورات الحفاظ على الإئتمان والثقة في المعاملات.
لكن هل يعني ذلك أن المشرع مطالب بخلق توازن بين مصالح الغير ومقتضيات الإستقرار التعاقدي؟
وهل أن المشرع بتناوله لمسألة الغير في بعض الفصول القانونية يكون قد أحاط بكل الإشكاليات القانونية المرتبطة بحماية هذا الأخير؟
وإن كان الأمر كذلك فكيف جسد هذه الحماية؟
كل هذه الأسئلة يكمن حصرها في إشكال قانوني عام يتلخص في البحث عن الآليات القانونية التي اعتمدها المشرع لتحقيق حماية الغير في إطار العقد الباطل.
للإجابة عن هذا الإشكال لا بد من الإشارة إلى أن ردة فعل الغير إزاء العقد الباطل تختلف باختلاف مركزه القانوني بمعنى أن ردة فعله تتراوح بين تصد لدعوى البطلان من خلال مبدأ عدم المعارضة أو من خلال القيام بالطعن في صحة التصرفات التي تستهدف حقوقه.
0 Commentaires